السبت، 8 أغسطس 2020

قُبلة


قُبلة

قُبلة


خرجت عليهم بثوب زفافها كملاك من نور ، تشع جمالاً و حباً كنجمة ، يفوح عطر الخجل من وجنتيها المتوردتين كـ  ورد جوريّ  ، تتهادى  كـ " ريم " في فلاة  الأحداق ، بلقيس تمشي على صرح ممرّد من قوارير، أخذت بـألباب الحاضرين ، و طرحة  " الدانتيل "  تلك تنساب على شعرها الأسود كشلال غرّيد حاني.

تضج حيوية و أنوثة ، ألقاً و عذوبة ، فراشة تمرح بين زهرات الباقة التي تحملها بين يديها الناعمتين ، و بذاك التاج الماسي البرّاق كهلال في كبد ليل حالك .. بدت ملكة في أبّهة باذخة .

جلست على الأريكة التي تصدرت الغرفة و سارعت صديقاتها لتقبيلها و المباركة لها ، و لم ينسين قَرْصها من ركبتها ، تقليداً  اعتادت عليه الفتيات ليلحقن بالعروس و يُخطبن بعدها .

دَعَونَها للرقص .. فزغردن و صفقّن مع كل الموجودين ، تكاد القلوب تطير فرحاً و سروراً ، أما أمّ ناصر فكانت ترتل المعوذات و تقرأ التحصينات لتحمي وحيدتها من عين الحاسدين ، و شر الحاقدين ، فهناك من يغبطها على زواجها المبكر ، و مَن تحسدها على عريسها و حظها فيه ، و أُخريات دارت أعينهن من بهاء طلتها و حُسنها الأخّاذ .

" سعيد " هو سعيد الحظ الذي تنتظره اليوم بارتباك و قلق يُرعد أطرافها و تخفيه بابتسامتها الشفافة الدافئة ، توتر ما قبل اللقاء بزوج المستقبل و الخطوة الفاصلة التي ستنقلها إلى حياة قادمة و قصة جديدة من عمرها بشخصيات و أحداث أخرى غير تلك التي عاشتها في بيت أهلها .

بعينين دامعتين من فرح و حزن كانت تنظر لمن حولها و تحدق بهم و هم يضحكون و يرقصون و يزغردون كما لو أنها تُقبّلهم و تضمهم جميعاً ، أو أنها تريد أن تحتفظ بأكبر عدد من صورهم و حركاتهم و تفاصيلهم في مخيلتها ، هي تشعر أنها راحلة إلى مجهول لذا
 كانت توضّب حقائب ذاكرتها و تملؤها من براءة طفولتها ، و جنون شبابها و صديقاتها ، و مغامرات دراستها ، و طيبة جيرانها ، و كرم و بساطة أهل مدينتها .
دويٌّ شق عباب السماء و زُلزلت الأرض زلزالها..

" برميل متفجر "  ..دقائق معدودة ، خنق غبار البيوت المتهدمة أنفاس الهواء ، وتعالى الصراخ و النواح ، هلع اجتاح الناس ، أشلاء متناثرة ، أشجار محترقة ، أعضاء تحت الأنقاض ، بنايات خرّت من علٍ ، مشهد عظيم تَذهل من هوله العقول ، و تقشعر له الأبدان .

" هي " ..الآن ممددة مضرجة بدمائها على الأريكة التي كانت تجلس عليها ، و باقة الزهر على صدرها تعطرها روحها التي زُفّتِ اليوم بدلاً منها .

كأميرة نائمة وهبها الموت قُبلتَه لتصحو في عالم خير من هذا العالم .

يُسارع الخطا نحوها هرعاً ، يتعثر بالركام المحيط بها ليواصل زحفاً حتى يصلها ، فينهال عليها مطراً بدموعه العطشى ، يتعمّد بدمائها الطاهرة علّها تغفر له تأخره عنها ، يُقبّل يديها و جبينها .." واحبيبتاااااه "  .. أيتها السعادة التي لم أنعم بها و الحياة التي لم أعشها .

لم يكن " سعيد " أتعس حظاً و أقسى قدراً و أكثر ألماً كما كان اليوم .

هاهو نعشها يُحمل بأسرع مما حُمل عرش ملكة سبأ ،ليصل إلى مثواها الأخير في حديقة وسط المدينة كانت قد تحولت إلى حديقة للشهداء يتعارفون فيها ، تلتقي أرواحهم بين أفياء سدرٍ مخضود ، و يستأنس بهم الأحياء ، و تشدوا على سقوفهم الشريفة الحمائم و الطيور العابرة .

ووُريَت " مرح " التراب  .. كان يليق بها أن ترقد في ذاك الأديم السندسي الأخضر بين الورود و الأقاحي  كـ زهرة توليب متفرّدة عابقة بالحب و الألم .

لم تعلم مرح تلك الفتاة السورية العشرينية أن موعدها اليوم لن يكون مع سعيد زوجها المستقبلي و إنما كانت على موعد مع الموت الذي رغم تربّصه بها و بمدينتها يحصد أرواحهم و أحلامهم لم يردعها و لم يمنعها عن استمرار الحلم و المضيّ في حياتها بقلب مؤمن و إرادة واعية و عزيمة مكابرة .

كانت تحتفي بالفرح في كل مناسبة ، و تستقبله كما لو كان عشيقاً ..فكان حريٌّ بالموت أن يحتفي بها و يستقبلها كما لو كانت ملكة .

رهيف سريحيني

هناك تعليقان (2):

  1. سطرت فأجدت فأبدعت وأمتعت من خلال هذا النص الرائع لك خالص تقديري وفائق احترامي وتحية معطرة بخالص المودة

    ردحذف
  2. من بعض ما عندكم أستاذنا الفاضل أنارت المدونة بحضورك و تألقت بكلماتك الغالية .. لك الود و الورد

    ردحذف

حديث الصباح

اسم الكتاب : حديث الصباح اسم الكاتب : أدهم شرقاوي عدد الصفحات 348 الكتاب عبارة عن نصوص بحيث لكل نص عنوانه الخاص و فكرته المتعلقة به  ولا...