قُبلة
خرجت عليهم بثوب زفافها كملاك من نور ، تشع جمالاً و حباً كنجمة ، يفوح عطر
الخجل من وجنتيها المتوردتين كـ ورد
جوريّ ، تتهادى كـ " ريم " في فلاة الأحداق ، بلقيس تمشي على صرح ممرّد من قوارير،
أخذت بـألباب الحاضرين ، و طرحة "
الدانتيل " تلك تنساب على شعرها
الأسود كشلال غرّيد حاني.
تضج حيوية و أنوثة ، ألقاً و عذوبة ، فراشة تمرح بين زهرات الباقة التي
تحملها بين يديها الناعمتين ، و بذاك التاج الماسي البرّاق كهلال في كبد ليل حالك
.. بدت ملكة في أبّهة باذخة .
جلست على الأريكة التي تصدرت الغرفة و سارعت صديقاتها لتقبيلها و المباركة
لها ، و لم ينسين قَرْصها من ركبتها ، تقليداً اعتادت عليه الفتيات ليلحقن بالعروس و يُخطبن
بعدها .
دَعَونَها للرقص .. فزغردن و صفقّن مع كل الموجودين ، تكاد القلوب تطير فرحاً
و سروراً ، أما أمّ ناصر فكانت ترتل المعوذات و تقرأ التحصينات لتحمي وحيدتها من
عين الحاسدين ، و شر الحاقدين ، فهناك من يغبطها على زواجها المبكر ، و مَن تحسدها
على عريسها و حظها فيه ، و أُخريات دارت أعينهن من بهاء طلتها و حُسنها الأخّاذ .
" سعيد " هو سعيد الحظ الذي تنتظره اليوم بارتباك و قلق يُرعد
أطرافها و تخفيه بابتسامتها الشفافة الدافئة ، توتر ما قبل اللقاء بزوج المستقبل و
الخطوة الفاصلة التي ستنقلها إلى حياة قادمة و قصة جديدة من عمرها بشخصيات و أحداث
أخرى غير تلك التي عاشتها في بيت أهلها .
بعينين دامعتين من فرح و حزن كانت تنظر لمن حولها و تحدق بهم و هم يضحكون و
يرقصون و يزغردون كما لو أنها تُقبّلهم و تضمهم جميعاً ، أو أنها تريد أن تحتفظ
بأكبر عدد من صورهم و حركاتهم و تفاصيلهم في مخيلتها ، هي تشعر أنها راحلة إلى
مجهول لذا
كانت توضّب حقائب ذاكرتها و تملؤها من براءة طفولتها ، و جنون شبابها و
صديقاتها ، و مغامرات دراستها ، و طيبة جيرانها ، و كرم و بساطة أهل مدينتها .
دويٌّ شق عباب السماء و زُلزلت الأرض زلزالها..
"
برميل متفجر " ..دقائق معدودة ، خنق
غبار البيوت المتهدمة أنفاس الهواء ، وتعالى الصراخ و النواح ، هلع اجتاح الناس ،
أشلاء متناثرة ، أشجار محترقة ، أعضاء تحت الأنقاض ، بنايات خرّت من علٍ ، مشهد
عظيم تَذهل من هوله العقول ، و تقشعر له الأبدان .
" هي " ..الآن ممددة مضرجة بدمائها على الأريكة التي كانت تجلس
عليها ، و باقة الزهر على صدرها تعطرها روحها التي زُفّتِ اليوم بدلاً منها .
كأميرة نائمة وهبها الموت قُبلتَه لتصحو في عالم خير من هذا العالم .
يُسارع الخطا نحوها هرعاً ، يتعثر بالركام المحيط بها ليواصل زحفاً حتى
يصلها ، فينهال عليها مطراً بدموعه العطشى ، يتعمّد بدمائها الطاهرة علّها تغفر له
تأخره عنها ، يُقبّل يديها و جبينها .." واحبيبتاااااه " .. أيتها السعادة التي لم أنعم بها و الحياة
التي لم أعشها .
لم يكن " سعيد " أتعس حظاً و أقسى قدراً و أكثر ألماً كما كان اليوم .
هاهو نعشها يُحمل بأسرع مما حُمل عرش ملكة سبأ ،ليصل إلى مثواها الأخير في
حديقة وسط المدينة كانت قد تحولت إلى حديقة للشهداء يتعارفون فيها ، تلتقي أرواحهم
بين أفياء سدرٍ مخضود ، و يستأنس بهم الأحياء ، و تشدوا على سقوفهم الشريفة
الحمائم و الطيور العابرة .
ووُريَت " مرح " التراب
.. كان يليق بها أن ترقد في ذاك الأديم السندسي الأخضر بين الورود و
الأقاحي كـ زهرة توليب متفرّدة عابقة
بالحب و الألم .
لم تعلم مرح تلك الفتاة السورية العشرينية أن موعدها اليوم لن يكون مع سعيد
زوجها المستقبلي و إنما كانت على موعد مع الموت الذي رغم تربّصه بها و بمدينتها
يحصد أرواحهم و أحلامهم لم يردعها و لم يمنعها عن استمرار الحلم و المضيّ في
حياتها بقلب مؤمن و إرادة واعية و عزيمة مكابرة .
كانت تحتفي بالفرح في كل مناسبة ، و تستقبله كما لو كان عشيقاً ..فكان
حريٌّ بالموت أن يحتفي بها و يستقبلها كما لو كانت ملكة .
رهيف سريحيني
سطرت فأجدت فأبدعت وأمتعت من خلال هذا النص الرائع لك خالص تقديري وفائق احترامي وتحية معطرة بخالص المودة
ردحذفمن بعض ما عندكم أستاذنا الفاضل أنارت المدونة بحضورك و تألقت بكلماتك الغالية .. لك الود و الورد
ردحذف